المؤرخ يغال بن نون يقدم عناصر جديدة في لغز مقتل بنبركة وعلاقته بإسرائيل

المؤرخ الإسرائيلي إيجال بينون
يغال بن نون، مؤرخ إسرائيلي، يعد من القلائل الذين تعمقوا في ملف العلاقات المغربية الإسرائيلية.. في هذا الحوار يعيد ضيفنا تقليب صفحات التاريخ مقدما روايات جديدة تسلط الضوء على ما خفي في العلاقات بين البلدين، بدءا من اتفاق هجرة اليهود المغاربة، ومرورا بحضور الموساد في ملفات مغربية حساسة كملف بنبركة.
كتبتم بشكل مستفيض عن العلاقات المغربية الإسرائيلية، متى يمكن القول إن هذه العلاقات بدأت وفي أي سياق؟

العلاقات المغربية الإسرائيلية، لم تبدأ خلال سبعينيات القرن الماضي، كما يتصور البعض، بل قبل ذلك، أي منذ فجر استقلال المغرب. في البدء كانت هذه العلاقة تتمحور حول موضوع حقوق اليهود، وحيازة جواز السفر، ثم مبدأ التنقل الحر.

العلاقات المغربية الإسرائيلية، في مجال الهجرة بدأت أولا قبيل استقلال المغرب، من خلال المؤتمر اليهودي العالمي، عبر منتدبيه بالمغرب جو غولان وألكسندر إيسترمان، اللذان التقيا ممثلي القصر على رأسهم مبارك البكاي، وأسماء من حزب الاستقلال من قبيل المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، كل ذلك بهدف حماية حقوق اليهود بالمغرب.

أثناء اجتماع مغلق للجامعة العربية ببيروت، سنة 1959، فاجأ الأمير مولاي الحسن جميع المشاركين، بأنه قد حان الوقت للعرب للاعتراف بإسرائيل، بل وانخراطها في الجامعة العربية، لم يخرج ما دار في الاجتماع للعموم إلا أثناء التوقيع على اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل. بعدها سيزور ولي العهد آنذاك القاهرة، حيث تلقى دعما عسكريا، هذا في الوقت الذي كان فيه السلطان محمد الخامس يعد لجولة عبر العواصم العربية. وفي يناير 1960 زار محمد الخامس العديد من عواصم الشرق الأوسط خلال خمسة أسابيع، تماشيا مع وعده أثناء القمة العربية بالدار البيضاء، وخلال الأحد عشر يوما التي قضاها بالقاهرة كان منشغلا بمسار تعريب التعليم بالمغرب، الذي لم يكن ليتم، حسب رؤيته، إلا بأساتذة مصريين يدرسون بالمغرب، وذلك بسبب النقص الحاصل بين صفوف الاطر المغربية نتيجة السياسة الاستعمارية الفرنسية، كما وقعت العديد من اتفاقيات التبادل الثقافي والتجاري، بيد أن السلطان محمد الخامس لم يكن متحمسا لعرض مصري لتدريب القوات المسلحة الملكية وتزويدها بالعتاد العسكري، مفضلا عرضا أردنيا، أي من خصم الجمهورية العربية المتحدة آنذاك.


متى تم الاتفاق إذن بشأن هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل؟

في غشت من سنة 1961، وقع "اتفاق التسوية" بين الحسن الثاني والإسرائيليين، يتيح تنقيلا سريا ومنظما للطائفة اليهودية المحلية، وخلال مفاوضات هذا الاتفاق حضر وسطاء إسرائيليون كجو غولان وأندري شوراكي، ومن الجانب المغربي حضر بنسالم كسوس، الذي التقى في مارس 1960 بالقدس، بوزير الشؤون الخارجية غولدا ماير، فيما ظلت شخصيات يهودية في الظل من قبيل سام بنزراف وإسحاق كوهن أوليفر، الذين التقوا بالأمير مولاي علي وعبد القادر بنجلون، من أجل تمحيص بنود هذا الاتفاق.. وخلافا لما كتب بعدها، فالجنرال محمد أوفقير لم يحضر اتفاق الهجرة الجماعية لليهود من المغرب، حتى إنه رفض الاتفاق.

وعلى ماذا كان ينبني هذا الاتفاق؟

في الواقع فالاتفاق كان يقضي باستفادة المغرب تعويضا ما بين 50 إلى 250 دولار للفرد الواحد، نظير الضرر الاقتصادي الذي من المحتمل أن يتسبب فيه رحيل اليهود المغاربة، هذه الهجرة تمت تحت غطاء المنظمة الإنسانية للهجرة (Hebrew Sheltering and Immigrant Aid Society).
يهود مغاربة مع صورة محمد الخامس

ماذا عن علاقة رموز المعارضة المغربية بالمسؤولين الإسرائيلين؟

في 28 مارس 1960، بعث غولدا ماير مبعوثا خاصا، يدعى ياكوب كاروز، الذراع الأيمن لرئيس الموساد إيسر هارل، للقاء المهدي بن بركة، الأخير طلب من الإسرائيليين دعما ماليا لحزبه، وذلك ما يفسر أثناء "منفاه" الثاني بأوربا تلقيه لراتب شهري من إسرائيل عبر وساطة من ألكسندر إيسترمان عن المؤتمر اليهودي العالمي، بيد أن العلاقات بين بن بركة وإسرائيل ستتدهور حينما طلب من كاروز، ودون تردد مده بأسلحة، ليستعملها حزبه وقتما أراد، حينما يعلن النفير ضد النظام من أجل تسلم السلطة. ابتداء من هذا اللقاء، نصح غولدا ماير سفيره بباريس، بالحيطة من المهدي، والاعتماد أكثر على محيط ولي العهد مولاي الحسن، ولعل هذا ما يفسر الخطاب المعادي لإسرائيل الذي ألقاه بن بركة بالقاهرة، بعدما قلصت إسرائيل علاقاتها معه، وتراجعت عن راتبها الشهري له، وأدارت بوصلتها تجاه القصر.

كل هذه اللقاءات الذي ذكرت حدثت في الظل، فمتى حدث أول تماس ديبلوماسي بين المغرب وإسرائيل؟

سيتعين علينا أن ننتظر حتى فبراير 1963، لأجل تسجيل أول علاقات ديبلوماسية سرية بين المغرب وإسرائيل، قبيل حرب الرمال بين المغرب والجزائر، بصحراء تندوف، حين فضل المغرب مساعدة من تقنيين إسرائيليين عوض نظرائهم من فرنسا أو أمريكا أو روسيا أو حتى مصر، أما بخصوص إسرائيل، فوزيرها الأول دافيد بن غوريون، كان يبحث عن علاقات مع بلدان عربية أو مسلمة، خارج الصراع الإسرائيلي-العربي.

أول لقاء ديبلوماسي مع القصر، حدث بين الذراع الأيمن لإيسر هاريل، ياكوف كاروز والجنرال محمد أوفقير بشارع فيكتو هيغو بباريس، ببيت قائد الشرطة الفرنسي، والمنتدب لدى الأنتربول، إيميل بنحمو، تلته سلسلة من اللقاءات بين أوفقير والعميل الشاب للموساد دافيد شومرون، اللقاءات جرت بجنيف بفندق "بو ريفاج" وبفندق كورنافين بشارع جيمس فازي.

وفي منتصف فبراير من نفس السنة، سيقوم أحمد الدليمي، نائب الدليمي بالأمن الوطني، بسفر لتل أبيب من أجل لقاءات عمل مع عدة فروع للموساد.
إيسر هاريل مدير "الموساد" في الفترة ما بين 1952 و 1963
من من المسؤولين الرسميين المغاربة الذين التقوا بنظراء لهم من إسرائيل؟

وفي 12 أبريل 1963، تلقى السفيران المغربي والإسرائيلي بباريس، محمد الشرقاوي، ووالتر إيتان، الضوء الأخضر من حكومتي بلدهما للقاء، بعدها توالت لقاءات عملاء الموساد مع أوفقير والدليمي والعديد من الشخصيات المغربية.

بعدها بشهرين، مير أميت زعيم الموساد الذي خلف إيسر هاريل، سيحل بالمغرب، ليلتقي كلا من الحسن الثاني والجنرال محمد أوفقير برواق صغير بقصر مراكش، وعلى عكس بعض الكتبن وبينها كتاب أحمد البخاري، فإيسر هاريل لم يقم بأي سفر رسمي للمغرب ويلتق قط الحسن الثاني.

وجاءت زيارة الجنرال مير أميت ومساعده ياكوف كاروز غداة فشل المفاوضات بين الحسن الثاني والرئيس الجزائري أحمد بن بلة بالجزائر، حول المشاكل الحدودية، وقبيل حرب الرمال بين البلدين الجارين، هنا، طلب أوفقير دعم إسرائيل عسكريا وأمنيا واستراتيجيا، ولم يكن المغرب يثق لا في الأمريكيين ولا في الفرنسيين، لهذا فضل دعما من إسرائيل.
بن بركة يتوسط كلا من الجنرالين الدليمي وأوفقير
معروف أن الجدار العازل بالصحراء المغربية فكرة إسرائيلية، ما الإرهاصات التي أخرجت هذه الفكرة إلى الوجود، ومن من المغاربة الذي كان يقف على حيثيات الموضوع؟

في سنة 1980، نصح الجنرال إسحاق رابين، الذي سيضحي وزيرا أول، أحمد الدليمي ببناء جدار عازل يقي "الصحراء النافعة" ومناجم بوكراع، وهنا توطدت الروابط بين المغرب وإسرائيل في العديد من المجالات 
الأمنية، وبالأخص في التعاون الفلاحي، والتكنولوجيات الجديدة، والاتصال والتجارة وتكوين الأطر
المهدي بن بركة
طبعت العلاقات المغربية الإسرائيلية بملف المهدي بن بركة، ما الرواية التي تقدمون؟

بكل تأكيد لم تكن للحسن الثاني رغبة لتصفية بن بركة، حتى إنه أرسل وزيره رضا اكديرة إلى باريس، من أجل عرض فكرة العودة للمهدي إلى أرض الوطن قبل عقد مؤتمر القارات الثلاث، الذي كان من المقرر أن يجري بهافانا، بيد أن بن بركة فضل عدم العودة للبلاد بعد هذا المؤتمر، وبرأيي أن المغاربة لم يريدوا أن يحصل لبن بركة ما حصل له.

انطلاقا من الشهادات التي جمعتها منذ 1996، ومن مصادر جد موثوقة، فبن بركة توفي مخنوقا، بعدما قام أحمد الدليمي وميلود التونسي، المعروف بلقب الشتوكي، بغطس رأسه في حوض استحمام، ما تسبب في موته، وهنا سيسارع الدليمي في طلب إيمانويل تادمور، المسؤول عن الموساد بباريس، من أدل مساعدته للتخلص من جثة المهدي، ومنح مساعديه جوازات سفر مزورة.

وكان الدليمي قد حل بباريس في 28 أكتوبر 1965، والتقى بناتفالي كينان، رئيس فرع تيفل التابع للموساد، وطلب منه البقاء قرب الهاتف في شقة تابعة للموساد، بعد يومين، التقيا مجددا، طالبا منه مفاتيح الشقة، التي لقي فيها بن بركة حتفه.

بعدها حل ثلاثة عملاء من الموساد، وهو أليعيزر شارون، وزيف أميت، ورافي إيتان، بشقة بباريس، حاملين جثة المهدي بن بركة داخل حوض استحمام، فغلفوه ووضعاه بصندوق سيارة ديبلوماسية متجهة لضاحية باريس، من أجل دفنه بغابة شمال شرق باريس، في مكان كان من المعتاد أن يرتاده عملاء الموساد من أجل النزهة، فسكبوا عليه مستحضرا كيميائيا، كانوا قد اقتنوه عملاء الموساد من عدة صيدليات بباريس، ساعات بعد ذلك، تسبب المستحضر الكيميائي حين تفاعل مع الماء في إذابة الجثة.

شهورا بعد الواقعة، اعترف الدليمي لدافيد شومرون أن بن بركة توفي بين أيديه، وهنا أنقل شهادة شومرون بأمانة "الدليمي وضع رأس الضحية في حوض استحمام، حتى إذا أراد أن يتقين إذا ما يزال يتنفس، نكزه في أنحاء جسده، لمعرفة ما إذا تعين عليه إخراج رأسه، بعدها، بقيت رأس بن بركة طويلا في الماء دون تنفس، فتوفي مخنوقا"، وحسب شومرون، فالدليمي لم يستعمل أي مسدس ولا أي أداة من التي منحته إياها الموساد بطلبه، مبرزا أن وفاة بن بركة لم تكن سوى نتيجة حماس زائد من الدليمي، فيما لم يكن لأوفقير أي دور في القضية.

ماذا كان صدى اختطاف بن بركة وقتله في المغرب؟

بعد وقوع الكارثة، طلب الحسن الثاني من أوفقير الحلول بباريس من أجل استفسار سلوك الدليمي، ففي الواقع أراد الملك "توريط" أوفقير في الملف أمام القضاء الفرنسي، وفي نهاية المطاف، تمت تبرئة الدليمي من القضاء، فيما أدين أوفقير، الذي لم يكن متورطا لا في اختطاف ولا موت بن بركة، غيابيا بالسجن مدى الحياة، وبقية القصة معروفة، بعد محاولته الانقلاب على الحسن الثاني سنة 1972، أما الدليمي فقد لقي مصرعه سنة 1984 في حادثة سير مثيرة للريبة.

اشتغلت بشكل مستفيض على ملف بن بركة، فما كان مصير أبحاثك؟

نقلت مجمل ما توصلت إليه للبشير بن بركة، وشقيقه بباريس في أكتوبر 1998، ولزكية داود في يوليوز 1997 وشتنبر 1998، إلى جانب المحامي موريس بوتان في 30 مارس 2004، بعدها طلب مني الأخير إذا ما كنت مستعدا لتقديم شهادتي للقاضي راماييل، فوضعت شرطين: ألا تعتبر شهادة بل رأي خبير، وأن يؤخذ هذا الرأي بإسرائيل وليس بباريس، فلم يتم الاتصال بي بعدها، وفي 27 شتنبر 2014، جدد المحامي بوتان طلبه أمام قاضي التحقيق الجديد سيريل بيرسو.

وبوساطة من الوزير الاسبق أحمد رمزي، قبل المسؤول عن الأمن المغربي حميدو لعنيكري لقائي، فحدث اللقاء في شتنبر 1998 بباريس بدروغستور بالشونزيليزي، فأخطرته أني سأنشر ما توصلت له في ملف بن بركة، فقدمت له الإسم الحقيقي للشتوكي.

طبعت العلاقات المغربية الإسرائيلية بحضور شبه دائم للموساد، فماذا قدم المغرب في المقابل لإسرائيل؟

بجهود وتبصر من الملك الراحل الحسن الثاني في مجال العلاقات الدولية، ظهرت إرهاصات اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل، سبقتها المشاورات التي جرت بإفران.

وبقيت العلاقات بين إسرائيل والمعارضة السياسية، ممثلة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من جهة، ومع القصر من جهة ثانية، سرية، وكان اليهود المغاربة يرون بعين الريبة هذه العلاقات دون معرفة أبعادها، وبفضل الولوج لأرشيف القدس، بات بإمكاننا فهم خبايا الوفاق اليهودي المغربي، الذي بدأه محمد الخامس، وطوره الحسن الثاني.

No comments